فصل: التلاؤم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.التلاؤم:

122 - إن المعنى الذي ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي هو ما سماه الرماني بالتلاؤم، أي: تكون نغمات الحروف متلائمة بعضها مع بعض في الكلمة، والكلمات يتألف نغمها بعضها مع بعض في الجمل، والجمل يتألف بعضها مع بعض في القول كله، كما نرى في القرآن الكريم، فإنَّ الآية تتضافر ألفاظها في نغم هادئ إن كانت الآية في تبشير، أو داعية إلى التأمل والتفكير إن كانت في عظة، وتتلاءم نغماتها قوية إذا كانت في إنذار، أو في وصف عذاب، اقرأ قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ، وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 1 - 10].
إنك ترى في هذه الآيات الكريمات، وهي إنذار بما يكون يوم القيامة، وما يستقبل الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، من عذاب شديد يترقبهم - ترى في النغم قوة شديدة قارعة لأسماع الذين يشركون، ويكفرون بالله تعالى، ويفسدون ويعتدون، ويظلمون، ويشترك في نغمة الترهيب الألفاظ بحروفها، والجمل بكلماتها، والخواتم بشدة جرسها، وقرع الأسماع بها.
ثم اقرأ في سورة الضحى نغمات الرحمة الواسعة، إذ يقول سبحانه:
{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى كلها].
وانظر إلى الآيات الداعية إلى التأمّل في الكون، وما فيه من أمور هادية تجد فيها النغمات الهادئة اللافتة الموجّهة من غير قرع للأسماع، بل بتوجيه للأفهام، اقرأ في سورة الغاشية.
{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 17 - 29].
وإنك ترى في هذا النص المبين أنه قد اجتمع التأمل ذو النغمة الهادئة الموجهة من غير عنف، في جرس يسترعي الأسماع ويصرف الأنظار، واجتمع الإنذار الشديد القوي، ولم يكن ثمة تنافر بين الإنذار الشديد، والتأمل السديد، بل كان الانتقال من مقام إلى مقام لا يبدو فيه التباين، وإن كان المقام الثاني إنذارًا؛ ذلك لأن الإنذار كالثمرة للتوجيه بالنسبة لمن لم تهده الآيات، وتوجهه النظرات إلى الكون وما فيه.
وإنك إذ تنظر في وصف الجحيم تجده في نغمٍ كأنما يخرج منه ريح السموم، وإن وصف الجنة تجد في نغمه أصواتًا حلوة كأنها روح وريحان لأنها جنة، واقرأ بعض السورة التي تلونا منها آنفًا، وصفًا للجحيم ووصفًا للنعيم، فإنك واجد لا محالة الفرق في النغم، اقرأ قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 1 - 16].
تجد في هذه النصوص وصفين لأمرين متباينين، أولهما وصف الجحيم وأصلها وتجد فيه الألفاظ والمعاني والنغم كله يلقي بالألم في النفس والخوف من العذاب الشديد، والمصير العتيد. والثاني وصف النعيم وأهله، وترى فيها الراحة، والاطمئنان والقرار والسعادة، ويشترك في هذا ألفاظ وجمل ومعان، ونغم حتى كأنك ترى لا تسمع.
123 - وإن كان الكلام الذي يتسم بالبلاغة لا بُدَّ أن يكون فيه التلاؤم، والتلاؤم ضد التنافر، وعرَّفه الرماني، فقال: التلاؤم نقيض التنافر، وهو تعديل الحروف في التأليف، والتأليف متنافر، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم في الطبقة العليا، ثم يضرب الأمثلة على التنافر الذي هو ضد التلاؤم، ثم يذكر أنَّ التلاؤم الذي يكون في الدرجة الوسطى هو التلاؤم الذي يكون في كلام البلغاء وأهل الفصاحة من الناس، أمَّا التلاؤم في الطبقة العليا فإنه لا يكون إلَّا في القرآن الكريم، ويقول في ذلك رضي الله عنه:
والمتلائم في الطبقة العليا في القرآن كله، وذلك بيّن لمن تأمَّله، والفرق بينه وبين غيره من الكلام في تلاؤم الحروف على نحو الفرق بين المتنافر والمتلائم في الطبقة الوسطى، وبعض الناس أشد إحساسًا بذلك وفطنة له من بعض، كما أن بعضهم أشد إحساسًا بتمييز الموزون في الشعر من المكسور، واختلاف الناس في ذلك من جهة الطباع كاختلافهم في الصور والأخلاق، والسبب في ذلك تعديل الحروف في التأليف، فكلما كان أعدل كان أشد تلاؤمًا.
ويستفاد من هذا الكلام أنَّه يرجع السبب في علوِّ التلاؤم في القرآن كله إلى التعديل بين الحروف بأن تكون الحروف متلاقية في النطق، فليس فيها تباعد في المخارج شديد، بحيث يصعب الانتقال من مخرج إلى مخرج، ولا التقارب الشديد الذي يجعل بعض الحروف يندغم في بعض.
وإنَّ ذلك ينطبق على النطق، فالتعديل في المخارج بالبعد عن الاختلاف الشديد أو القرب الشديد، إنما هو يتعلق بالنطق، وإنك بلا ريب تجد ألفاظ القرآن الكريم وجمله بعيدة عن هذا كل البعد، بل إنه المثل الأعلى في ذلك.
وإن التلاؤم في ألفاظ القرآن الكريم وجمله وآياته ومواضع الوقف فيه ليس في المخارج فقط، بل هو فيما هو أعلى من ذلك، إنما هو في النغم، وجرس القول وموسيقاه، فلا تجد حرفًا ينشز في موسيقاه عن أخيه, ولا الكلمة عن أختها، ولا الجملة عن لاحقتها، والآية كلها تكون مؤتلفة النغم في الغرض الذي سيقت له، فإن كان إنذارًا كان النغم إرعادًا، وإن كان تبشيرًا كان نسيمًا، وإن كان عظة كان تنبيهًا، وإن كان تفكيرًا كان توجيهًا لافتًا عمَّا سواه، وهكذا.
وقد قال الرماني: والتلاؤم في التعديل من غير بعد شديد أو قرب شديد، وذلك يظهر بسهولته على اللسان، وحسنه في الأسماع، وتقبله في الطباع، فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان في صحة البرهان في أعلى الطبقات ظهر الإعجاز للجيد الطباع البصير بجواهر الكلام، كما تظهر له أعلى طبقات الشعر من أدناها إذا تفاوت ما بينها، وقد عمَّ التحدي للجميع لرفع الإشكال، وجاء على الاعتبار بأنه لا تقع المعارضة لأجل الإعجاز، فقال - عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24]، فقطع بأنهم لن يفعلوا، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] ولما تعللوا بالعلم والمعاني التي فيه، قال عز من قائل: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] فقد قامت الحجة على العربي والعجمي.
وإن هذا يدل على أن العجز لم يكن لأجل المعاني فقط، وإن كانت معجزة في ذاتها، ولكن التحدي كان بالألفاظ والأساليب، لأنَّهم أمة بليغة ولكنها أمية.
وقد أدركوا من أول الأمر ما في الألفاظ من جمال، وما في تأليف القول من نسق وانسجام، وما في جرسها من نغم، ولما تورط بعض منهم في أإن يحاكوا القرآن، لم يكن اتجاهم إلّا إلى النَّغم أرادوا محاكاته في نغمه فجاء كلامهم غثًا، ليس فيه نغم ولكن فيه ما يدل على إدراك سقيم.

.الفواصل:

124 - يعرِّف الرماني الفواصل بأنها: حروف متشابكة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني، ويقول: الفواصل بلاغة والاسجاع عيب؛ وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة؛ إذ كان الغرض الذي هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعاني التي إليها الحاجة ماسة، فإذا كانت المشاكلة مواصلة إليه فهو بلاغة، وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب ولكنه، لأنَّه تكلف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة، ومثله مثل من رصَّع تاجًا ثم ألبسه زنجيَّا ساقطًا، أو نظم قلادة ثم ألبسها كلبًا، وقبح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم، فمن ذلك ما يحكي عن بعض الكهان: (والأرض والسماء، والغراب الواقعة بنقعاء، لقد نقر المجد إلى العشراء)، وهكذا نجد الرماني يفرّق بين السجع والفاصلة، بأن الفاصلة بلاغة، وأن السجع عيب، وأن الفواصل الألفاظ فيها تتبع المعاني، والأسجاع الألفاظ فيها مقصودة، والمعاني تابعة، ويظهر أنه لم يكن بين يديه إلا سجع الكهان، ولكن أكل السجع كذلك، وألَّا يوجد سجع يزيد المعاني قوة، وتكون فيه المعاني هو المتبوزعة، وليست تابعة، وأنَّ السجع يزيد المعاني ويعطيها قوة ويسهل قبولها، ويكون بابًا من أبواب تأكيدها.
ولذلك خالف الرماني في ذلك كلام الذين كتبوا البلاغة من بعد، وقبل أن نخوض فيما قالوه، نقرِّر أنَّ الفرق هو بين الفواصل والسجع، إنَّ الفواصل معناها أن تكون مقاطع الكلام متقاربة في الحروف كالنون والميم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وأما السجع فهو أن تكون المقاطع متحدة في الحروف، ونلاحظ أن الرماني متأثر في فكرة السجع بسجع الكهَّان الذي قصد به اتحاد الحروف من غير نظر إلى المعنى، ومن غير أن تكون المعاني في ذاتها ذات قيمة، بل لا يقصدون إلا إلى رصّ الكلمات متحرين اتحاد المقاطع.
وإنه عند التحقيق نجد أنَّ الفواصل أعمّ من السجع، فهي إما سجع تتحد فيه حروف المقاطع، أو مجرَّد فواصل تتقارب فيها حروف المقاطع، وذلك رأى ابن سنان في كتابه (سر الفصاحة) فهو يقول: الفواصل على ضربين: ضرب يكون سجعًا، وهو ما تماثلت فيه حروفه في المقاطع، وضرب لا يكون سجعًا، وهو ما تقابلت حروفه في المقاطع ولم تتماثل، ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين من أنه يأتي سهلًا طوعًا وتابعًا للمعاني، وبالضدِّ من ذلك حين يكون متكلفًا يتبعه المعنى، فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدالّ على الفصاحة، وحسن البيان، وإن كان الثاني فهو مذموم.
وإن هذا الكلام معناه أنه ليس في كل فاصلة تكون الألفاظ تابعة للمعاني، فيكون الحسن والإفصاح والإحسان، وليس في كل سجع تكون المعاني تابعة للألفاظ، فيكون التكلّف، بل التعميم بالحسن في غير السجع، والقبح في السجع هو الخطأ، ولا شك أن فواصل القرآن كلها من البليغ الذي تكون فيه الألفاظ تابعة للمعاني.
وأنه بلا ريب في القرآن مقاطع تتحد فيها الحروف، ومقاطع أيضًا لا تتحد فيها الحروف، ولكن تتقارب، ومن المقاطع التي تتحد فيها الحروف قوله تعالى في سورة الغاشية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 1 - 16].
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 1 - 8].
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 1 - 8].
وهكذا نجد اتحاد حروف المقطع في مقطعين أو أكثر، ثم تتغير إلى اتجاه المقاطع في حرف آخر، ومن القرآن ما تتقارب فيه المقاطع، مثل قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ، قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 1 - 6].
إننا لا نجد المقاطع متحدة الحروف، ولكن نجد أمورًا ثلاثة:
أولها: تقارب مخارج الحروف في المقاطع، فالدال والباء، والظاء مخارجها واحدة، والنطق فيها متقارب، ولا نفرة بينها.
ثانيها: وجود حرف المد قبل الحرف الأخير من كل مقطع، وهو حرف الياء في خمسة منها، وواحد بالواو، والوزن في الخمس الأول منها هو وزن فعيل.
وبهذين الأمرين كان التقارب في المقاطع، تقاربًا بينا يجعل نسق القول واحدًا، ولو لم تتحد المقاطع.
والأمر الثالث: هو اتحاد النغم والموسيقى في كل المقاطع، فهي كلها مؤتلفة في حروفها وألفاظها، وجملة ومقاطعها، حتى كونت صورة بيانية تجعل كلام الله العزيز فوق كل منال.
وقد يكون الكلام في القرآن خاليًا من المقاطع في بعض الآيات، ولا ينزل في نغمه وموسيقاه عن سمته ومستواه الأعلى، ومن ذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
ومن ذلك كثير من آيات الأحكام مثل آية المواريث، فالله تعالى يقول: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 11 - 13].
وإننا لا نجد في هذا الكلام إلّا مقطعين لا يعدَّان فواصل متقاربة، ولا فواصل متحدة في آخرها بحروفها، إنما هو كلام الله المنثور من غير إرسال، بل النغم متآخ، والمعاني متلاقية، والألفاظ متجانسة، ومتلائمة مع بيان للأحكام ميسرًا سهلًا، فلم ينزل ذكر الأرقام بمرتبة الكلام عن حد التلاؤم والتآخي.